• ٦ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العنف الأسري عاصفة تُهدّد استقرار الأسرة

سلوى النجار

العنف الأسري عاصفة تُهدّد استقرار الأسرة

◄بحث في مفهومه وأنواعه وأسبابه

الإسلام يرفض العنف بأشكاله وألوانه كافة، ومن بينها العنف الأسري، ويُربي أتباعه على منهج الرفق والتسامح والرحمة. لذا فقط جعل الله سبحانه وتعالى المودة والرحمة والفضل والإحسان من الثوابت التي تقوم عليها الأسرة المسلمة. غير أنّ ظاهرة العنف الأسري التي تعتبر من الظواهر السلبية التي لم يسلم منها مجتمع من المجتمعات على مر العصور، باتت آخذة في التزايد في عصرنا الراهن بسبب طبيعة الحياة العصرية التي صارت تفرض ضغوطاً نفسية وعصبية متزايدة على الفرد. وفي بيان مفهوم العنف الأسري وأشكاله، لاسيّما تلك التي ترتبط بالعنف الواقع على الزوجة، وسبل علاجه والتصدي له.

قد شاءت الحكمة الإلهية، واقتضت الإرادة الربانية أن تتفتق نبتة الحياة الإنسانية وتزهر وروداً ورياحين عطرة، وتثمر ثماراً يانعة من رحاب الأسرة ومن تحت ظلالها. فكانت الأسرة قاعدة الحياة البشرية، واللبنة الأولى لبني آدم، قال تعالى في مستهل سورة النساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا). فإنّ الفاطر الحكيم قد خلق النفس الواحدة، ومن شطري هذه النفس جعل الزوجين الذكر والأنثى، اللذين باجتماعهما تكونت الأسرة الإنسانية، وانبثت منهما أسر وجماعات وشعوب وقبائل، قال الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات/ 13). وعليه فإنّ البشرية قد صدرت من إرادة واحدة، وتكونت في رحم واحدة، والتقت في وشيجة واحدة.

هكذا فإنّ الأسرة في ظل نظام الاجتماع الإسلامي هي أسرة متماسكة متراصة، تغمرها المشاعر الإنسانية النبيلة وتظللها الأحاسيس الرقيقة الصادقة، فتلتقي فيها أسمى معاني الحب والوئام، وتنبثق منها أسمى دلالات التكافل والتكاتف، لأنّها أسرة قائمة على المودة والرحمة، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً...) (الروم/ 21). إلا أنّه في الآونة الأخيرة قد اجتاحت هذه الأسرة رياح العنف العاتية، وعواصفه المدمرة التي تروم اقتلاع أصولها، وتفكيك ترابطها، وتمزيق تماسكها، فما مصدر هبوب هذه الرياح؟ وما منفذ دخولها إلى بيوت الأسر المسلمة؟ وقبل ذلك لابدّ أن نقف على المعنى المراد من كلمة (عنف)، لنعرف هل من علاقة تربطها بالأسرة، وهل العنف صفة أصيلة فيها؟

 

معنى العنف:

العنف في معاجم اللغة معناه: الخرق بالأمر وقلة الرفق به، ويأتي بمعنى الشدة والمشقة. والعنيف من لا رفق له بركوب الخيل، وكذلك الشديد من القول. واعتنف الأمر: أخذه بعنف، أو أتاه ولم يكن له به علم. وعنفه، لامه بعنف وشدة. وطريق معتنف: غير قاصد (القاموس المحيط وتاج العروس7).

فمن هنا يظهر أنّ العنف نقيض للرفق واللين واليسر، لأنّه يحمل كلّ معاني الشدة والمشقة في القول والفعل. والمتأمل في عبارة (العنف الأسري) يجدها تحمل في طياتها تناقضاً كبيراً، في المبنى والمعنى، والدلالة والمحتوى. إذ إنّ الأسرة ترتبط عادة بمعاني المحبة والمودة، لأنّ الأصل فيها هو تحقيق السكن النفسي والرفق الروحي ونشر الطمأنينة والاستقرار الاجتماعي، وذلك لقول الله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا...) (النحل/ 80). أما العنف والصراع والقوة والغلظة، فهي مفاهيم غريبة عن الأسرة المسلمة المنضبطة بالمنهج الرباني، والمتبعة لمسلك المودة والرحمة القرآني.

ومن الصعوبة بمكان تحديد مفهوم دقيق لعبارة (العنف الأسري)، لأنّ التحديدات التي وضعت من قبل الباحثين نجدها ترتبط بتخصيص كلّ باحث أو بميدان عمله. فعالم الاجتماع ينطلق في تحديده من نظرة علم الاجتماع، وعالم النفس ينطلق في تحديده من نظرة علم النفس. غير أنّه يمكن القول إنّ العنف الأسري هو أحد أشكال السلوك العدواني، وممارسة القوة أو الإكراه ضد فرد أو أكثر من أفراد الأسرة عن قصد وعمد.

ويعد العنف الأسري من أكثر الظواهر انتشاراً، وأخطرها تهديداً للمجتمعات الإنسانية في عصرنا الحاضر، لأنّه يصيب الخلية الأولى للمجتمع بالخلل والاضطراب، ويضرب قلب نواتها مما يجعلها عاجزة عن أداء وظائفها السامية التي أنيطت بها. وإذا دب العجز والشلل إلى كيان الأسرة فإنّه سيسري إلى جسد المجتمع كلّه. ومن ناحية ثانية فإنّه سيعيد إنتاج أنماط جديدة من السلوك غير السوي الذي يُدخل المجتمع في صراعات عدوانية لا متناهية.

 

أشكال العنف الأسري:

تتباين ألوان العنف الأسري وتختلف أشكاله بالنظر إلى حيثيَّتين اثنتين: الأولى: من حيث الجهة الموجه ضدها، فإنّه يتنوع إلى ثلاثة أنواع: العنف الأسري الموجه ضد المرأة بنتاً أو أختاً أو زوجةً أو أماً، العنف الأسري الموجه ضد الأطفال، والعنف الأسري الموجه ضد المسنين. أما الحيثيّة الثانية فهي من حيث نوعية السلوك العدواني، فإنّه يتنوع إلى الأنواع التالية: عنف بدني: ضرب، لطم، كسر، جرح، تعذيب جسدي، إزهاق روح. عنف معنوي: شتم، سب، إهانة، تحقير، استهزاء، إهمال، إذلال. عنف جنسي: قد يتمثل في الاعتداءات الجنسية على الأطفال من طرف أحد أفراد الأسرة، أو إكراه الزوج لزوجته على إتيانها في الدبر. عنف مالي: الحرمان من التمتع بالحقوق المالية المقررة شرعاً. وسيقتصر حديثنا في هذا المقال على نوع واحد من العنف الأسري، وهو العنف الموجه ضد المرأة كزوجة، لأنّ المجال لا يتسع للحديث عن الأنواع الأخرى.

 

العنف ضد الزوجة:

هذا النوع من العنف قد أعاد إلى أذهاننا صوراً بغيضة من العنف الجاهلي التي أبطلها الإسلام وحاربها حتى محاها، حيث كانت المرأة مُهانة ومُحتقرة ويُنظر إليها على أنها الجالبة للخزي والعار، ولقد أخبر القرآن الكريم عن هذا العنف الذي يُمارس ضد هذا الكائن الضعيف في قوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير/ 8-9)، وقد كرّم الإسلام هذه النفس البشرية، وحرَّم قتلها بغير وجه حقّ، فقال الله عزّ وجلّ: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا...) (المائدة/ 32).

ولقد عادت تظهر في عصرنا الحالي أشكال شتى للعنف الجاهلي المقيت، الذي ازداد حدة وضراوة حتى أصبحنا نرى صوراً مفزعة ومُخيفة منه تمارس تحت سقف البيت الأسري وبين جدرانه الأربعة، وتكون ضحيته الزوجة التي تتعرض من طرف زوجها المتسلط إذا طالبت ببعض حقوقها الشرعية إلى سلوكيات عدوانية تتباين بين الإيذاء المعنوي والمادي. فأما الإيذاء المعنوي، فيتمثل في إهانة الزوجة وإهمالها وسبها وشتمها بألفاظ نابية وجارحة، أو حرمانها من حقها في سماع كلمة طيبة، أو ابتسامة رقيقة، أو مجاملة لطيفة، بينما نجد هذا الزوج يسرف في بذل الابتسامات، وتوزيع المجاملات خارج البيت. وأما الإيذاء البدني فيتمثل في الضرب بكلِّ أنواعه: لكم، صفع، شد الشعر، المسك بعنف، الخنق...

وتخلف هذه السلوكيات العدوانية والإيذاءات العنيفة آثاراً على الضحية تتراوح بين البسيطة، التي قد تؤدي إلى غضبها، والشديدة، التي تحدث لها آثاراً على جسدها، أو قد تسبب لها كسوراً أو جروحاً خطيرة، أو قد تُصيبها بعاهة مستديمة، والأخطر من ذلك كلّه هو ما يودي بحياتها. وهنا نتساءل عن الأسباب التي تؤدي إلى ارتكاب مثل هذه السلوكيات الإجرامية في حقِّ هذه الإنسانة التي كرّمها الله عزّ وجلّ، من فوق سبع سماوات وجعل لها حقوقاً مشروعة؟

 

المصدر: مجلة زهرة الخليج/ العدد 1827 لسنة 2014م

ارسال التعليق

Top